### خلف ستائر "المرأة الحديدية": أسرار المطبخ التي كادت تودي بحياة مارغريت تاتشر
في عالم السياسة، تُبنى
الأساطير في قاعات الاجتماعات وساحات المعارك الانتخابية وعلى المنابر الدولية. أما
أسطورة مارغريت تاتشر، "المرأة الحديدية" التي حكمت بريطانيا بقبضة من
فولاذ من عام 1979 إلى 1990، فقد صيغت في خضم الحرب الباردة، وإضرابات عمال
المناجم، وحرب الفوكلاند. لكن خلف هذا الستار الحديدي، وفي سنوات خريف عمرها،
تتكشف فصول أخرى من حياتها، أكثر هدوءًا وإنسانية، وأحيانًا أكثر دراماتيكية مما
نتوقع، وهذه الفصول لم تُروَ في مذكرات سياسية، بل في مطبخ منزلها الفخم في حي
بيلغرافيا اللندني، على لسان طاهيتها الخاصة، جيميما مكلين.
![]() |
### خلف ستائر "المرأة الحديدية": أسرار المطبخ التي كادت تودي بحياة مارغريت تاتشر |
- في مقالة مؤثرة لصحيفة "ذا تايمز" البريطانية، تفتح مكلين نافذة نادرة على السنوات الأخيرة لتاتشر
- مقدمةً صورة مغايرة للزعيمة التي انقسم حولها البريطانيون بشدة. لم تكن هذه تاتشر القائدة التي
- تتحدى النقابات أو تواجه الاتحاد السوفيتي، بل كانت سيدة مسنة، بدأت ذاكرتها الفذة تخونها بفعل
- الخرف، لكن روحها الساخرة ولطفها المفاجئ كانا لا يزالان يتوهجان، تمامًا كحبها الراسخ لمشروب
- الجين والتونيك.
**مقابلة غير متوقعة وكأس من الجين**
في ربيع عام 2005، وجدت جيميما مكلين، الشابة البالغة من العمر 26 عامًا وخريجة الفنون التي تحولت إلى الطهي، نفسها أمام المرأة التي هيمنت على المشهد السياسي البريطاني طوال طفولتها. كانت المقابلة للحصول على وظيفة طاهية مؤقتة.
- تقول مكلين إن التوتر كان سيد الموقف، لكنه سرعان ما تبدد حين بادرتها تاتشر، التي كانت تقترب
- من عامها الثمانين، بسؤال بسيط ودافئ: "هل تودين كأسًا من الجين والتونيك؟". كان هذا العرض
- البسيط هو المفتاح الذي فتح الباب أمام علاقة فريدة، حيث تحول الترهيب إلى ألفة، والرسمية إلى
- دفء إنساني.
على الرغم من مرور عقد ونصف على مغادرتها داونينغ ستريت، كانت حياة تاتشر لا تزال محكومة بإيقاع صارم. احتفظت بمكتب في البرلمان كعضو في مجلس اللوردات، وكان جدول أعمالها مليئًا بالالتزامات. لكن خلف هذه الواجهة، كانت علامات الضعف قد بدأت بالظهور. لاحظت مكلين بوادر الخرف، لكنها انبهرت في الوقت ذاته كيف أن ذكاءها الحاد كان يلمع في لحظات صفاء مدهشة.
- كان المنزل نفسه شاهدًا صامتًا على إرثها المثير للجدل. تصف مكلين الإجراءات الأمنية المشددة
- وكيف أن أجزاءً كبيرة من المنزل كانت مضادة للقنابل ومعززة بالفولاذ. كان هذا تذكيرًا دائمًا بأن
- أعداء المرأة الحديدية، من الجيش الجمهوري الإيرلندي إلى خصومها السياسيين، كانوا كُثرًا، وأن
- التهديد لم يختفِ بمجرد خروجها من السلطة.
**في مطبخ "ليدي تي" طقوس يومية وعائلة معقدة**
شقّت مكلين طريقها إلى مطبخ تاتشر، وأصبحت تناديها بمودة "ليدي تي". كانت مهمتها تتجاوز إعداد الطعام. تقول: "كنت أطبخ لها، وأحيانًا أتناول الطعام معها، ثم تأتي إلى المطبخ لتساعدني في غسل الصحون وتحادثني".
- في هذه اللحظات الهادئة، كانت تاتشر تتحدث باستمرار عن زوجها الراحل دينيس، الذي توفي عام
- 2003، واصفة إياه بأنه "الصخرة" التي استندت إليها لتصبح ما أصبحت عليه. كانت هذه الأحاديث
- تكشف عن فراغ عاطفي عميق خلفته وفاة شريك حياتها لأكثر من نصف قرن.
كانت قائمة الطعام تعكس
شخصيتها: بريطانية كلاسيكية، بلا تكلّف أو ادعاء. فطيرة الراعي، فطيرة السمك،
الطواجن، واليخنات، ومشويات يوم الأحد التقليدية. كانت هذه الأطباق البسيطة
والمريحة هي ما تفضله، بعيدًا عن تعقيدات المطبخ الفرنسي الفاخر.
- أما عن علاقتها بأسرتها، فقد قدمت مكلين لمحات كاشفة. كانت شاهدة على فوز ابنتها كارول في
- برنامج تلفزيون الواقع الشهير "أنا مشهور... أخرجوني من هنا!". بدت تاتشر مستمتعة وهي تتابع
- مغامرات ابنتها على الشاشة، في تجربة وصفتها مكلين بـ"السريالية". وعندما التقت بكارول لاحقًا
- وجدتها "ودودة ولطيفة"، لكنها لمست أن العلاقة بين الأم وابنتها لم تكن وثيقة، وهو أمر اعترفتا به
- كلتاهما في كتاباتهما.
على النقيض تمامًا، كان
ابنها مارك. تلمح مكلين إلى بروده وجفائه في التعامل مع والدته المريضة. كتبت:
"يمكنني وصف أسلوبه مع والدته بأنه كان متذمرًا أكثر من كونه متفهمًا لضعفها
في تلك المرحلة". لم يكن ينظر في عينيها عند الحديث، وكانت زياراته تبدو
وكأنها واجب أكثر منها تعبيرًا عن المودة، مما يبرز التصدعات في صورة العائلة
المثالية.
**الغداء المشؤوم "كدت أقتلها"**
تبقى الحادثة الأبرز في
ذاكرة مكلين هي تلك التي جعلتها تعتقد أنها كادت أن تقتل رئيسة الوزراء السابقة. بعد
زيارة لعائلتها في اسكتلندا، عادت مكلين ومعها زوج من طيور الحجل التي اصطادها
والدها، الذي كان، للمفارقة، من أصحاب الميول اليسارية ومناوئًا لسياسات تاتشر. اقترحت
على "ليدي تي" تحضير أحد الطيور كوجبة غداء، فرحبّت بالفكرة بحماسة.
- طهت مكلين الطائر وقدمته مع كأس من النبيذ. بدا كل شيء على ما يرام. استمتعت تاتشر بوجبتها
- وكانت في مزاج رائع عندما غادرت مكلين المنزل في ذلك اليوم. لكن بعد ساعات قليلة، وبينما كانت
- في شقتها، تجمدت أمام شاشة التلفاز. خبر عاجل: "ليدي تاتشر أُدخلت إلى مستشفى تشيلسي
- ووستمنستر كإجراء احترازي بعد شعورها بالإعياء".
تصف مكلين تلك اللحظة
بالرعب المطلق: "أُصبت بالذعر. بالطبع لم يكن والدي قد دسّ السم في الحجل
للتخلص من عدوته السياسية، لكن عقلي المذعور راح يراجع كل تفصيلة. لقد تناولنا
غداءً دسماً، ترافق مع بعض المشروبات، وكنتُ حرفياً الشخص الذي قدم هذا كله للسيدة
الحديدية. هل أفرطتُ في طهي الطائر؟ هل كان النبيذ قوياً جداً؟ هل سأُعرف بأنني
الطاهية التي قتلت مارغريت تاتشر؟". كانت تلك الساعات مليئة بالقلق
والسيناريوهات الكارثية.
في اليوم التالي، حملت
الأخبار معها الصعداء. استعادت تاتشر عافيتها بالكامل، وغادرت المستشفى. لم يكن
الأمر أكثر من وعكة صحية عابرة، لا علاقة لها بطائر الحجل الاسكتلندي.
** خدمة وتوصية صامتة**
عندما انتهى عقد عملها
المؤقت وعاد الطاهي الدائم، حان وقت الوداع. افترقت مكلين وتاتشر على أفضل حال. زودها
سكرتير تاتشر، مارك وورثنغتون، برسالة توصية رائعة تفتح لها أبواب المستقبل. كتبت
مكلين في ختام مقالتها: "لم يذكر في الرسالة، حتى تلميحًا، أنني كدت أقتل ’ليدي
تي‘".
الختام
تُظهر شهادة جيميما مكلين أن أعظم الشخصيات التاريخية، حتى تلك التي تبدو وكأنها منحوتة من الجرانيت، تعيش في النهاية حياة إنسانية مليئة بالتفاصيل الصغيرة: لحظات من الضعف، وشوق للأحبة الراحلين، واستمتاع بوجبة بسيطة، وعلاقات عائلية معقدة.
لقد أتاحت لها
الصدفة أن ترى ما وراء الأسطورة، لتقدم لنا صورة حميمة ومؤثرة عن الفصل الأخير في
حياة امرأة غيرت وجه بريطانيا إلى الأبد.